عمر بلافريج : السياسي الذي اختار الصمت فصار صوته أعلى من الجميع

Imou Media8 أكتوبر 2025
عمر بلافريج : السياسي الذي اختار الصمت فصار صوته أعلى من الجميع

عمر بلافريج : السياسي الذي اختار الصمت فصار صوته أعلى من الجميع

ن عمر بالكوجا أكادير

في زمنٍ تراجعت فيه الثقة في الخطاب السياسي وتبدّدت فيه الحدود بين المصلحة العامة والحسابات الحزبية، عاد اسمٌ قديم ليشعل فضول الجيل الجديد من المغاربة: عُمر بلافريج. النائب السابق عن فيدرالية اليسار الديمقراطي، الذي غاب عن الأضواء منذ انتخابات 2021، وجد نفسه فجأة في قلب النقاشات الرقمية بين شباب “جيل Z”، بعدما ظهر في بث مباشر على منصة “ديسكورد”، حيث بدا كأنه يتحدث من داخل وجدانهم لا من فوق منبرٍ سياسي.

لم يكن بلافريج مجرّد برلماني “متمرّد” كما وصفته بعض وسائل الإعلام ذات يوم، بل كان أحد آخر الأصوات العقلانية في مشهدٍ غارق في الضجيج. كان يُناقش القوانين بصرامةٍ فكرية، ويطرح الأسئلة التي يتجنّبها الآخرون، مسلّحًا بلغةٍ علمية وموقفٍ ثابت من قضايا التعليم، الثقافة، والحكامة الجيدة. كان يعرف أن السياسة ليست خطابة، بل مشروع فكري ومسؤولية أخلاقية.

منذ بداياته في فيدرالية اليسار، كان بلافريج يحرص على مخاطبة الناس بلغة مفهومة. أطلق بودكاستات حوارية ناقشت قضايا الشباب، وتناول فيها موضوعات حساسة كالمواطنة والعدالة الاجتماعية والتحول الرقمي، محاولًا خلق صلة جديدة بين السياسة والمجتمع. لقد كان يؤمن بأن الفكرة لا تحتاج إلى صراخ لتصل، بل إلى وضوح ونزاهة.

قرار انسحابه من الحياة السياسية سنة 2021 جاء مفاجئًا لكثيرين، لكنه في عمقه كان انسحابًا محسوبًا. بلافريج لم يُقصَ من المشهد، بل اختار أن يخرج منه بإرادته. في زمنٍ يتشبّث فيه السياسيون بالكراسي، غادر بهدوء دون أن يساوم على مبادئه، تاركًا وراءه نموذجًا نادرًا في الممارسة السياسية المغربية الحديثة.

اليوم، حين يتحدث شباب “ديسكورد” أو “تويتر” عن رموز المصداقية، يعود اسمه بقوة. بالنسبة إليهم، لم يعد بلافريج “نائبًا يساريًا” فحسب، بل “مرجعًا معنويًا” يمثل جيلًا من السياسيين الذين آمنوا بأن الفكر يمكن أن يكون مقاومة. وتبدو المفارقة لافتة: السياسي الذي صمت عن الكلام منذ أربع سنوات، صار حديث الساعة وسط جيلٍ لا يثق بسهولة.

ارتباطه بالمشهد الثقافي، من خلال مساهمته في تأسيس ودعم مهرجان “L’Boulevard” بالدار البيضاء، أكسبه مكانة رمزية وسط الشباب الحضري الذي يرى فيه وجهًا مختلفًا للسياسة — وجهًا يشبههم، يتحدث بلغتهم، ويتقاسم همومهم دون شعارات جاهزة.

ورغم أنه لا يُبدي أي نية للعودة إلى الساحة الحزبية، فإن حضوره في الفضاء الرقمي يزداد قوةً يوماً بعد آخر. بعض المقاطع من بودكاستاته القديمة تُعاد مشاركتها كأنها وثائق من زمنٍ نقيٍّ نادر، وزمنٍ لم تكن فيه السياسة مجرّد وسيلة للتسلق أو الظهور.

قد يكون عمر بلافريج اليوم بعيدًا عن مقاعد البرلمان، لكنه أصبح رمزًا ثقافيًا وأخلاقيًا لوعيٍ جديد يتشكّل في المغرب. رمزٌ لشخصٍ فهم أن الصدق قد يكون أحيانًا أكثر تأثيرًا من الخطابة، وأن الانسحاب في لحظةٍ مدروسة يمكن أن يكون أبلغ فعلٍ سياسيٍّ في زمنٍ أنهكته الوعود الفارغة.

وربما، في هذا الصمت الطويل الذي اختاره، يكمن جوهر رسالته: أن السياسة ليست أن تتكلم كثيرًا، بل أن تعرف متى تصمت دون أن تغادر الضمير العام.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.